طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟

هل تسمح لي بالتدخين؟

سألني معتز

لا تبدو سجائر عاديّة، أخشى أن تؤثر في وعيك قبل الحوار؟

“بالعكس، بدونه لن تكون هناك اعترافات، ولن أستطيع أن أعبر لك بكل وضوح عن أفكاري!” قالَ لي مغريًا.

قمتُ من الكرسي الذي بجانبه، وانتقلت إلى أبعد نقطة في المجلس الذي استضافنا فيه صديق مشترك، بعد أن قدّمنا كلًّا منا للآخر، ثم غاب عنا لينجز بعض مهامه.

لم يتأخر معتز في إعداد سيجارته العجيبة، فتح حقيبته اليدوية وأخرج جواز سفره، لم يكن جواز سفرٍ عاديًّا، لا أوراقَ فيه، فتح الجواز الذي ثبّتَ فيه صندوقًا معدنيًّا مستطيلا بحجم علبة سكاكر صغيرة، فتح العلبة وأخرج مادة صلبة بُنيّة اللون بحجم بذرة خوخ، ثم أخذ يحكها على حديدة مسننة معلقة بطرف الجواز بسلسلة كتعليقة المفاتيح، أخذ رذاذ القطعة يتجمع في ثنيّة الجواز حيث تلتقي الصفحة الأولى بالصفحة الأخيرة، ثم مدَّ يده إلى حقيبته وأخرج كيسَ التبغ، أخذ منه حفنة بثلاثة أصابع، كانت كميّة التبغ موزونة، بحيث أصبحت تشكل نصف الخلطة تقريبًا مع تلك المادة، عاد إلى صندوق عجائبه الصغير وأخرج منه ورقة سجائر مع المصفاة الإسفنجية، ثبّت المصفاة على الورقة وثناها بيد واحدة وأمسك جوازه باليد الأخرى ثم صبّ من ثنيّة الجواز إلى ثنيّة الورقة، ولفّها. ألقاها إلى فمه، وأشعلها بسرعة، بعد نفس عميق، نظر إليّ وقال “أنا جاهز لأخبرك بكل شيء!”.

“قل لي أولًا، هل هذا جواز سفر حقيقي؟”

“نعم، هذا جوازي العربي، حصلت على جنسيّة أخرى قبل سنوات، فانتقمت من هذا الجواز الذي كانت تُغلق أمامه كل مطارات العالم، بأن صيّرته حقيبة للكيف، الآن صار يأخذني إلى حيث أريد!” قال هذا وهو يعيد جوازه إلى حقيبته وينفض ما تساقط على الأريكة.

“في الحقيقة، لا أريد أن أجري معكَ حوارًا كما فعلت مع كثير قبلك، أريد أن أسمع قصتك، لن أزعجك بالأسئلة، ما دام ما تشربه يعين على الصراحة فلا أريد أن أحدده بأسئلتي فيفوتني شيء من الاعترافات، أخبرني بحكايتك منذ البداية” قلت هذا وتربّعت في جلستي على الأريكة المقابلة له استعدادًا لمقابلة طويلة، بعد أن قربت منه هاتفي للتسجيل، وألقيتُ بمفكرة أسئلتي جانبًا!

“أنت صحفي شاطر!” قال هذا بضحكة مبحوحة “طيب يا سيدي، أنا معتز، عمري 34 سنة، ولدت في الإسكندرية وفيها عشت، أعمل اليوم في الإعلام كمصمم، ولديّ عمل جانبيّ هو أحبُّ إليّ من وظيفتي وهو أني كوميديان أقدم عروضًا مضحكة”.

“هذه بداية مخيّبة يا معتز، أنا هنا لسماع الاعترافات، لا لتقديم عرض وظيفي” قلتُ له باسمًا ومستفزًا!

“حسنًا، خذ أول اعتراف: حين كان المصريون في ميدان التحرير في 2011، يطالبون بإسقاط النظام، كنت جالسًا على شاطئ الإسكندرية أدخن سجائري وأسيح في عوالمي!”.

أنت أول مصري أسمعه يقول إنه لم يشارك في ثورة يناير.

“لم تكن ثورة، كان تجمعًا غاضبًا، أنا يائس من مجتمعي، لم أكن أظن أنه يستطيع أن يتغيّر، حتى لو جاء غير مبارك، لن يتغير الوضع، كلنا نتشابه إلى حد بعيد، المشكلة ليست فيمن يحكم، المشكلة من هي الجماعة المميزة التي ستخرج شخصية مختلفة تستطيع تغيير واقعنا بشكل حقيقي!” ثم رمى بنظره إليّ، أخبرني يا حضرة الصحفي، بلادك تمرّ باضطرابات الآن “هل تستطيع أن تسمي لي شخصية واحدةً تعتقد أنها قادرة على إصلاح البلاد إذا استلمت غدًا الرئاسة؟”

بعد ثوانٍ من التفكير، واريتُ عجزي عن الإجابة بقولي “أنا هنا لطرح الأسئلة، لا تأخذ وظيفتي من فضلك”.

“أرأيت! لا يوجد. نحن مجتمعات تحتاج إلى تغيير قبل أن تطالب بتغيير من يديرها، لأن من يديرها لن يكون من غيرها!”.

هذه السلبية السياسيّة من أين اكتسبتها؟ سألته محاولًا استعادة إدارة الحوار.

“أنا ابن لعصر مبارك، العجز وانسداد الأفق، وعدم الجدوى، والجهد القليل هو طابع الواقع الذي عشت فيه” بعد لحظة صمت ورفع رأسه إلى السقف كمن يفكر في إجابة أدق “شوف، أنا وعدتك بالاعترافات، أظن أن الأمر أعمق في شخصيتي، هذا ما تسميه بالسلبيّة السياسيّة، أسميه أنا بوضعيّة ’’ما ليش دعوة” [لا علاقة لي]. نشأت في أسرة متوسطة تعمل في نجارة الخشب، ولديهم شركة ليست بالكبيرة، كنت أحب أخوالي وأحب أعمامي، ولأني لا أريد أن أخسر أحدًا منهم، كنت دائمًا أقول لهم في الخلافات التي تحصل بينهم في العمل “ما ليش دعوة” ولا آخذ موقفًا في أي خلاف، أو أصطفّ مع أحدهم ضد الآخر حتى لو كنت أعرف الجانب المخطئ، حتى لا أخسر أي طرف!”.

تخاف من اتخاذ القرارات؟

“جدًّا، والمشكلة ليست في عدم اتخاذها، مشكلة القرارات أنها تحتاج إلى اتخاذ، وتحتاج كذلك إلى توقيت صحيح، كل تأجيل في اتخاذ القرار يزيد من صعوبته مع مرور الزمن”.

“لا أظن أني فهمت تمامًا ما تقوله” قلت وأنا أشعر بالخوف من أن مفعول ما يشربه بدأ يؤثر في قدرته في التعبير.

“سأضرب لك مثالًا، تناولي للمخدرات في سن 16 سنة كان حماقة مني، ولكن كان بإمكاني أن أتخذ قرارًا بالتوقف بعد أول سيجارة وينتهي الأمر بسهولة لأني كنت أعرف أنه عمل خاطئ. لكني بقيت أؤجل هذا القرار، حتى صار شاقًّا جدًّا عليّ. الآن في محاولاتي للتوقف أشعر بالحقد على معتز المراهق لأنه ورطني هذه الورطة، فالتوقيت في اتخاذ القرار مهم بقدر أهمية اتخاذه، فهمت؟”

فهمت، حسنًا بهذا المنطق، ألا تلوم نفسك أنك لم تشارك في الثورة؟ فربما كان ذلك قرارًا سيغيّر حياتك!.

“يا سيدي لن يتغيّر شيء، لقد دخلت إلى الخدمة العسكريّة في 2012. حين ذهبت للتسجيل في بعض الدوائر، كانت صور مبارك ما تزال معلقة على الحائط. في مرة طلب مني الموظف القاعد على المكتب رشوة حتى يوقع على الورقة، قلتُ له: “مش احنا عملنا ثورة وتغيرنا وخلصنا من الفساد؟

ردَّ عليّ بكل هدوء وثقة: هم تغيروا نحن لم نتغير!”.

ودفعتَ؟ سألتُه

“لا طبعًا، مارست نوعًا آخر من الفساد، اتصلت بأحد معارفي واستخدمت المحسوبيّة، وتمت المعاملة، ألم أقل لك: المشكلة فينا نحن، لكننا نحاول تصديرها”.

“حين دخلنا الخدمة استقبلونا بالضرب “بالشلاليت” (= الأحذية) وقالوا لنا ألستم أنتم من عملتم الثورة؟”

لكنك دخلت إلى الخدمة الإجبارية، ين