محمد إقبال.. شاعر الفلاسفة وشيخ المتصوفة في القارة الهندية

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا؟!

كان محمد إقبال شاعراً وفيلسوفاً ومصلحاً رائداً للنهضة، وقد لعب دوراً بارزاً في الإصلاح الديني في العصر الحديث، ولعب دوراً لا يقل عن الدور الذي قام به محمد عبده في العالم العربي.

وصف الأستاذ عباس محمود العقاد محمد إقبال بأنه طراز العظمة الذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر وفي كل حين، لأن عظمته ليست بالدنيوية المادية، وليست بالأخروية المُعرضة عن الدنيا، “وهو زعيم العمل بين العُدْوتين من الدنيا والآخرة، قوّام بين العالَميْن كأحسن ما يكون القوّام”.

إلهام الحب النبوي والفكر الصوفي.. بدايات في البنجاب

ولد محمد إقبال يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1877 في مدينة سيالكوت بولاية البنجاب (التي أصبحت جزءا من باكستان بعد استقلالها عن الهند). وعندما بلغ عامه الرابع أخذه والده إلى الشيخ مِير حسن طالبا منه أن يُعلّمه الدين، فرأى الشيخ طفلا طموحا، وتوسم فيه النجابة والذكاء، وأقبلت الفرصة على إقبال لتفتح له آفاقا رحبة ومتعددة من العلم؛ فقد أضفى الشيخ عليه ظلالا وارفة مثمرة، وأصبح اسم محمد إقبال هو الأكثر رواجا في شبه القارة الهندية، بل بلغ ذكره ما بلغ في المشرق والمغرب.

ويقول إقبال صلاح الدين -وهو حفيد محمد إقبال- إن جدّه ترعرع في جو أسري ملتزم، وقد كان والده متأثرا جدا بأفكار الشيخ ابن عربي، وكان أكثر الكتب قراءة بعد القرآن هو كتاب “الفتوحات المكية”، معربا عن اعتقاده أن والده كان يميل لفكرة التصوف الوجودي، أو ما يسمي بـ”وحدة الوجود”.

ويؤكد المدير العام لقسم تعزيز اللغة الوطنية البروفيسور رؤوف باريخ أن محمد إقبال كان متدينا، وهذه كانت نتاج تربية والديه اللذين كانا متدينين كذلك.

ويضيف: كان محمد إقبال يستيقظ باكرا يُصلي الفجر ويتلو القرآن ويُسبّح، وكان قلبه عامرا بالشوق، مُفعما بالحب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتجده يُطرّز شعره ويُجمّله بذكر الحبيب المصطفى: إذا كنت مخلصا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، فحينها سيصبح الكون كله طوع يديك.

“أشرقت الشمس من الأفق وانقضى النوم العميق”

يُفسّر رئيس الأكاديمية الباكستانية للأدب “محمد يوسف خشك” ما يصفه بالسر الكامن وراء العنوان الظاهر لقصيدة محمد إقبال “طلوع الإسلام”، مُرجعا ذلك إلى بداية القصيدة: “إن خفوت ضوء النجوم دليل الصباح المنير”؛ فالدليل على قدوم الصباح هو تلاشي النجوم فعليا وذهابها. “أشرقت الشمس من الأفق وانقضى النوم العميق”؛ أيها الإنسان استيقظ من الغفلة الآن، فالشمس قد أشرقت، ويمكنك تشبيه الشمس هذه بالشمس ذاتها التي نعرفها وتحمل الكلام على ظاهره، لكن لو فسّرت هذه الشمس باليوم الجديد أو العهد الجديد فسيفتح أمامك خيارات مجازية متعددة.

وعن دراسات محمد إقبال يقول البروفيسور أصغر زيدي نائب مستشار الكلية الحكومية في لاهور، إن الكلية الحكومية تأسست عام 1864، وأصبح محمد إقبال طالبا فيها بين عامي 1895-1899. ومع بداية القرن الجديد في عام 1900 أصبح مدرسا في هذه الكلية، وكانت له شعبية كبيرة بين الطلاب، وكانت غرفته مقصدهم.

ويرى أصغر زيدي أن زيارة الغرفة التي مكث فيها العلامة محمد إقبال يعطيك إحساسا تلقائيا بالإلهام، حيث إن أعظم المفكرين في عصرنا كان طالبا وعاش في هذه الغرفة، وخلال فترة دراسته بدأ يخط كتاباته الأولى التي تحدث فيها عن رحلاته المتخيلة إلى السماء، وعن التنظير الشامل للنفس البشرية، والحاجة الملحة للمرء لفهم أهمية ذاته.

“أسرار النفس”.. هجوم على الصوفية الاتكالية في القارة الهندية

يرى الحفيد إقبال صلاح الدين أن كل فيلسوف أو مفكر لديه نقطة محورية تتركز حولها الأفكار، وبالنسبة لمحمد إقبال فإن مفهوم الذات أو الأنا هو الجزء المركزي لأفكاره، وكل شيء مبني حول ذلك المفهوم.

أما البروفيسور رؤوف باريخ فيقول إن هناك أمرا مثيرا للاهتمام في فلسفته وأفكاره، فقد كان بالتأكيد رجلا متدينا، واستلهم الكثير من جلال الدين الرومي، إلا أنه كان ضد الصوفيين، وبالتحديد ضد فئة معينة من التصوف كانت منتشرة في به القارة الهندية في تلك الأيام، لأنه كان يعتقد أن بعض الصوفيين لديهم بعض الممارسات غير الإسلامية في الأساس.

ويضيف أنه في مقدمة كتابه “أسرار النفس” -الذي نُشر للمرة الأولى عام 1915- هناك أربع مقطوعات ضد الذين انحرفوا من الصوفية، لأنه يُؤمن أن الإسلام علمنا أن ننهض، وأن نعمل بجد، وأن نفعل ما بوسعنا، ولكن الصوفيين -المشار إليهم- يُحاولون إقناع الناس بالاستكانة والتواكل وترك العمل، بدعوى أن هذا قدر الله.. نعم الحياة كلها بقدر الله، ولكن محمد إقبال يُشدد على أن الاجتهاد والعمل من قدر الله كذلك، وهو الجالب لعونه تعالى.. عليك أن تفعل كل ما في وسعك، وعندها فقط سيساعدك الله عز وجل.

ويؤكد الحفيد إقبال صلاح الدين أن كتاب “أسرار النفس” كان اتجاها معاكسا لأفكار الصوفية الوحدوية بشكل كلي، باعتبار أن الصوفية الوحدوية دعت إلى نفي الذات، بينما فلسفة محمد إقبال تقوم على إثبات الذات. إذ يقول: إن الضعفاء يفقدون أنفسهم في الله، والأقوياء يكتشفونه داخل أنفسهم.

اتهامات الكفر.. كيد المنافسين في مضمار الشعر

يُشير الشاعر ظفر إقبال إلى أنه قد أُلصقت بمحمد إقبال فتوى الكفر، وبمن خالفه أيضا، مع أن الاختلاف شيء طبيعي، وهو من علامات الجودة، وهو نفسه كان يقبل هذا الاختلاف، لكن لا يخلو الأمر من أناس سيئين يختلفون معه، ثم تتملكهم الغيرة ويعمي أبصارهم الحسد، ويتضح منهم الحقد؛ ولسان حالهم: هذا الرجل شاعر، ونحن أيضا شعراء، فكيف ارتقى لهذه المكانة؟ كان هناك الكثير من القضايا التي اختلف معه حولها أشخاص عدة، لكنها اختلافات فرعية، ولم تكن هذه الاختلافات في الأصول والمبادئ الفكرية.

ويذكر الحفيد إقبال صلاح الدين أن الكتاب الثاني لمحمد إقبال هو “رموز النفس”، وقد كتبه من أجل تطوير الذات الجمعية للأمة، وفي نهاية الكتاب يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام قائلا: إذا جاءت كلمة واحدة من كلماتي من خارج حدود القرآن أو من خارج تعاليمك، فقم بإهانتي أمام الأمة يوم القيامة، واحرمني من تقبيل قدميك.

أما الحفيد الآخر يوسف صلاح الدين، فيشير إلى أن جده يعتقد أيضا أن المتعصبين كبّلوا الأمة الإسلامية بما نسميه التقاليد بدلا من تعليم الأمة الإسلام الحقيقي وتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام.

وبحسب البروفيسور أصغر زيدي نائب مستشار الكلية الحكومية في لاهور، فإن محمد إقبال كان -منذ كتاباته الأولى- ضد الملالي إلى حد كبير، ويرجع ذلك إلى اعتقاده بأن تفسير الملالي للإسلام سيقودنا إلى المزيد من الأفكار المتطرفة التي تُحيلنا إلى عدم تقبل قيم الإسلام المختلفة والمتعددة، لذلك لم يكن يُؤيد التفسيرات التقليدية الضيقة للإسلام بقدر ما كان يعمل على تفسير حديث للإسلام، وأسلوب حياة يمكننا من خلاله أن نعيش بسلام مع الأديان الأخرى.

“إن